فصل: (مسألة:ظن وجود العدو)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: جوازائتمام المقاتلين بعضهم ببعض]

يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهة قتاله؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يصلي إلى جهته مع العلم بها، فهو بمنزلة من حول الكعبة، يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهته، والجماعة - هاهنا - أفضل من الانفراد، كصلاة الأمن.

.[فرع: إذا خشي العدو صلوا صلاة شدة الخوف]

قال الشافعي: (وإذا كان العدو بإزاء المسلمين، ولم يأمنوا مكيدتهم، وانهجامهم لو اشتغلوا بالصلاة.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف. وكذلك إن لم يروا العدو، ولكن أخبرهم الثقة عندهم: أن العدو بالقرب منهم، وأنه يطلبهم، فخافوا نكايتهم إن اشتغلوا بصلاة الخوف.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف).

.[فرع: بطلان الصلاة بالصياح]

فإن صاح على العدو.. بطلت صلاته؛ لأنه لا حاجة به إليه.
وأما العمل في صلاة الخوف: فلا فرق بين صلاة الخوف، وبين صلاة الأمن فيه، وإن عمل فيها عملًا قليلًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان كثيرًا - في غير صلاة شدة الخوف - بطلت صلاته.
قال الشيخ أبو حامد: والمرجع في ذلك إلى العرف والعادة.
وقال القاضي أبو الطيب: الضربة الواحدة لا تبطل الصلاة.
وفي الاثنتين إذا توالتا وجهان وإن ضرب ثلاث ضربات، أو طعن ثلاث طعنات متواليات، أو ردد الطعنة في المطعون.. قال الشافعي: (مضى فيها، ويعيد).
فمن أصحابنا من قال: بطلت صلاته بذلك، ولهذا تجب عليه الإعادة.
وقال أبو العباس: إن لم يكن مضطرًّا إليه.. بطلت صلاته به؛ لأنه لا حاجة به إليه، وإن كان مضطرًّا إليه.. لم تبطل صلاته؛ لأن به إليه حاجة، فلم تبطل به صلاته، كالمشي.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يصح؛ لأن الصلاة لا يمضى فيها مع البطلان، وإنما يجري مجرى الصلاة بغير طهارة عند الضرورة؛ لشغل الوقت.
وإذا مشى في صلاة شدة الخوف مشيًا كثيرًا لحاجة.. لم تبطل صلاته؛ لأن المشي قد يصح مع النفل، بخلاف غيره من العمل.

.[فرع: لا تضر الحركة القليلة]

قال الشافعي: (ولا بأس أن يصلي الرجل في الخوف ممسكًا بعنان فرسه؛ لأنه عمل يسير قليل، فإن نازعه فجذبه إليه جذبتين، أو ثلاثًا، أو نحو ذلك، وهو غير منحرف عن القتال.. فلا بأس، فإن كثرت مجاذبته.. فقد قطع صلاته، وعليه استئنافها).
قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما ذكرناه من الضربات والطعنات، وهذا يدل على أنه تعتبر كثرة العلم، دون العدد.

.[فرع: الحمل على العدو]

قال الشافعي في "الأم" [1/199] (ولو كانوا في صلاة الخوف، فحملوا على العدو، متوجهين إلى القبلة.. بطلت صلاتهم وإن حملوا عليهم قدر خطوة).
وهذا في غير شدة الخوف، وإنما أبطلها بالخطوة الواحدة؛ لأنهم قصدوا عملًا كثيرًا، لغير ضرورة، وعملوا شيئًا منه.
قال الشافعي: (ولو نووا أن العدو، إذا أظلهم معًا قاتلوه.. لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم في الحال لم يغيروا نية الصلاة).

.[فرع: الأمن حال الصلاة راكبًا]

إذا كان يصلي راكبًا، فأمن.. وجب عليه أن ينزل، ويتمها على الأرض، كالمريض إذا قدر على القيام في أثناء الصلاة، فإن نزل، وهو مستقبل القبلة، وخف نزوله.. بنى على صلاته.
وإن احتاج في النزول إلى عمل كثير.. فحكى في "الإبانة" [ق\ 99] وجهين:
أحدهما: يستأنف الصلاة.
والثاني: يبني على إحرامه.
وإن افتتحها آمنًا على الأرض، فخاف، فركب في أثنائها.. قال الشافعي: (استأنف الصلاة؛ لأن الركوب عمل كثير). وقال في موضع آخر: (يبني على صلاته).
واختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تبطل صلاته) إذا كان ركوبه لغير ضرورة، مثل: أن يركب لطلب مشرك، وما أشبهه؛ لأنه لا حاجة به إليه. والموضع الذي قال: (لا تبطل) إذا كان ركوبه لضرورة، كالدفع عن نفسه، أو للهرب الواجب؛ لأن به إليه حاجة.
ومنهم من قال: بل هي على قولين:
أحدهما: يبطلها؛ لأنه عمل كثير.
والثاني: لا يبطلها؛ لأن العمل الكثير للحاجة، لا يبطل الصلاة في شدة الخوف، كالمشي.

.[مسألة:ظن وجود العدو]

إذا رأوا إبلًا، أو سوادًا، أو غبارًا، فظنوا ذلك عدوًّا، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنهم ليسوا عدوًّا.. فهل تجب عليهم الإعادة؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب عليهم الإعادة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنهم تركوا ركنًا من أركان الصلاة على وجه الخطأ، فلزمتهم الإعادة، كما لو تركوا الطهارة، أو الركوع على وجه النسيان.
والثاني: لا إعادة عليهم، وهو الصحيح؛ لأن صلاة الخوف تتعلق بوجود الخوف وإن لم يتحقق المخوف، ألا ترى أن العدو، إذا كانوا بإزائهم، وخافوا إن اشتغلوا بالصلاة، ركبوا أكتافهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم علموا بعد ذلك أن العدو لم يعزم على شيء من ذلك، فإنه لا إعادة عليهم؟ فكذلك هذا مثله.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا أخبرهم ثقة أن العدو قاصد إليهم، فأما إذا ظنوهم: فعليهم الإعادة، قولًا واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين.
وإن رأوا العدو، فخافوهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أن بينهم وبينهم خندقًا أو نهرًا، أو طائفة من المسلمين لا يمكنهم الوصول إليهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تلزمهم الإعادة، قولًا واحدًا؛ لأنهم مفرطون في ترك تأمل المانع.
ومنهم من قال: فيه قولان، كالأولى.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه.

.[فرع: خوف الغرق]

إذا كانوا في واد فغشيهم سيل، وخافوا منه الغرق، فإن وجدوا نجوة - وهو الموضع المرتفع من الأرض - وأمكنهم صعودها.. لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه لا خوف مع ذلك، وإن لم يكن هناك شيء يتحصنون به من السيل، أو كان هناك، ولم يمكنهم أن يحصنوا به أموالهم، واحتاجوا أن يمشوا في طول الوادي.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف.
وكذلك إذا خاف الرجل من سبع، أو حية، ولم يمكنه منعه من نفسه، ولا التحصن عنه بشيء.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف؛ لأن الخوف موجود، ولا تلزمهم الإعادة.
وقال المزني: قياس قوله: أن تجب عليهم الإعادة؛ لأن العذر إذا لم يكن معتادًا أو نادرًا متصلًا.. لم تسقط عنه الإعادة، وهذا ليس بشيء؛ لأن كل جنس من الأعذار، إذا كان معتادًا.. فإن أنواع ذلك الجنس ملحقة به وإن كان ذلك النوع نادرًا لا يدوم، كالمرض، وذلك: أن المرض لما كان جنسه معتادًا.. كانت أنواعه ملحقة به وإن كان منها ما يندر، مثل: السل، والبواسير.. كذلك هذا مثله. وبالله التوفيق.

.[باب ما يكره لبسه]

يحرم على الرجل لبس الحرير، والديباج من غير ضرورة، ولا يحرم على النساء؛ لما روى علي، قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا، وفي يمينه قطعة حرير، وفي شماله قطعة ذهب، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها».
وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى حلة سيراء تباع على باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريناها لك لتلبسها للجمعة، وللوفد إذا قدم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا لباس من لا خلاق له في الآخرة» ويحرم الجلوس والنوم عليه، والتغطي به.
وقال أبو حنيفة: (لا يحرم عليه غير اللبس).
دليلنا: حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يفرق فيه بين اللبس، وغيره من الاستعمالات.
ولأن السرف في ذلك أعظم من اللبس.
وهلي يحرم ذلك على الصبيان؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المشهور -: أنه لا يحرم عليهم؛ لأنهم غير مكلفين.
والثاني: يحرم عليهم، كما يحرم على البالغين.
والثالث: إن كان له دون سبع سنين.. لم يحرم، وإن كان له سبع فما زاد.. حرم.
قال القاضي أبو الفتوح: يحرم على الخنثى لبس الحرير؛ لاحتمال كونه رجلًا.
هذا الكلام إذا كان جميع الثوب، أو أكثره من الحرير، فأما إذا كان الأقل من الثوب من الحرير، كالعلم والسدى والجيب والكفة.. فلا يحرم؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم والسدى: فلا بأس به».
وروي عن علي: أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير، إلا في موضع أصبع، أو أصبعين أو ثلاث، أو أربع». ولا يعرف لهما مخالف.
وروي عن مولى لأسماء: أنه قال: «اشترى ابن عمر ثوبًا شاميًّا، فرأى فيه خيطًا أحمر، فرده، فأخبرت بذلك أسماء، فقالت: يا جارية، ناوليني جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخرجت جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج».
فإن كان نصف الثوب إبريسم، ونصفه من القطن أو الكتان.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يحرم لأنه ليس الغالب فيه حلال.
والثاني: لا يحرم؛ لأنه ليس الأغلب منه المحرم.
إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يكون في غير حال الحرب، فأما إذا فاجأته الحرب، ولم يجد ما يحصنه عن السلاح إلا الديباج.. فالمستحب له أن يتوقى لبسه.
فإن لبسه.. جاز. قلت: لأنه يتوقى به، ويستعين به في الحرب.
وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما».
وحكى الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " وجهًا آخر: أنه لا يجوز، والأول هو المشهور.
فإن كانت له جبة قطن محشوة بالإبريسم، أو لبس الحرير باطنًا.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
ويحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي والمزعفر».
وأما الثياب النجسة: فلا يحرم لبسها إلا في الصلاة.

.[مسألة:حرمة الذهب على الرجال]

ويحرم على الرجل استعمال قليل الذهب وكثيره؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي، وعن لبس المزعفر، وعن التختم بالذهب».
والخاتم في حد القلة، ويفارق الحرير، حيث قلنا: لم يحرم القليل منه في الثوب؛ لأن السرف في قليل الذهب ظاهر، والسرف في قليل الحرير غير ظاهر.
وأما القسي: قال أبو عبيد: فإن أصحاب الحديث يقولون (القسي): بكسر القاف، وأهل مصر يقولون: (القسي): بفتح القاف، منسوبة إلى بلد يقال لها: (القس)، وهي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير.
ويجوز للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان له خاتم من فضة فصها منها، وكان يجعل فصها إلى راحته».
ويكره أن يتخذ خاتمًا من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على رجل خاتمًا من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار، ثم جاءه الرجل وعليه خاتم من صفر، فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة، فقلت: من أي شيء أتخذه؟ فقال: من ورق، ولا تتمه مثقالًا».
وقد ورد الخبر بالتختم باليمين واليسار، وهو في اليسار أظهر.

.[فرع: مزج الذهب بغيره]

فإن كان الذهب مختلطًا بغيره.. نظرت: فإن كان الذهب ظاهرًا.. حرم استعماله؛ لأن السرف فيه ظاهر، وإن كان غير ظاهر.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
قال الشيخ أبو حامد: وإذا صدئ الذهب، أو ذهب بالوسخ.. جاز لبسه؛ لأن السرف فيه غير ظاهر.
وقال القاضي أبو الطيب: يقال: إن الذهب لا يصدأ، فإن احتاج إلى لبس درع منسوج بذهب، أو بيضة مطلية بذهب، وفاجأته الحرب، فإن وجد ما يقوم مقامهما.. لم يجز لبسهما، وإن لم يجد ما يقوم مقامهما.. جاز لبسهما؛ لأنه موضع ضرورة.

.[فرع: لبس اللؤلؤ]

قال الشافعي: (ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب؛ فإنه من زي النساء، لا للتحريم؛ لأنه لم يرد الشرع بتحريم لبسه).
قال صاحب: "الإبانة": ويكره المشي في نعل واحدة، وخف واحد.

.[مسألة:استعمال الجلود المحرمة]

قال الشافعي: (ولا بأس أن يلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير من جلد قرد، وأسد، وفيل، ونحو ذلك؛ لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس).
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بعد الدباغ؛ لأنه جلد نجس.
قال: ومراد الشافعي: بعد الدباغ. وهذا ليس بشيء؛ لأن الشافعي علل: (لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس).
وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما: فلا يجوز استعماله بحال؛ لأن الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، والكلب لا ينتفع به إلا عند الحاجة إليه، وهو الحرث والماشية والصيد، وليس كذلك سائر الحيوانات، فإنه يجوز الانتفاع بها في حال الحياة بكل حال، فلذلك جاز بعد الموت. وبالله التوفيق.

.[باب صلاة الجمعة]

يقال: الجمعة: بضم الميم وسكونها، ويوم الجمعة: يوم فاضل، والدليل على فضله، قَوْله تَعَالَى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3].
قال الشافعي: (روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة». فأقسم الله به، وهذا يدل على فضله).
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله تعالى آدم، وفيه أهبط، وفيه تاب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة، من حين يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس شفقًا من الساعة، إلا الثقلين الجن والإنس، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي، ويسأل الله تعالى فيها شيئًا، إلا أعطاه».
وقد اختلف الناس في هذه الساعة:
فقيل: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمعوا، وتذاكروا فيها، فتفرقوا، ولم يختلفوا: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.
وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس.
وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وقيل: من زوال الشمس إلى أن يدخل الإمام في الصلاة.
وقيل: من خروج الإمام إلى أن تقضى الصلاة.
وقال كعب: لو قسم الإنسان جمعة في جمع... أتى على تلك الساعة. يريد: أنه يدعو في كل جمعة في ساعة، حتى يأتي على جميع اليوم.
قال الشافعي: والجمعة: هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، وكانت العرب تسميه: العروبة، وفيه قال الشاعر:
نفسي الفداء لأقوام همو خلطوا ** يوم العروبة أزوادا بأزواد.

فإن قيل: لم قال الشافعي: هو بين الخميس والسبت وليس بخفي هذا على أحد؟
قلنا: إنما أراد الشافعي: أن يبين هذا للعرب الذين كانوا يسمونها العروبة، وكانوا يعرفون الخميس والسبت، ولا يعرفون الجمعة، فبينها لهم بما يعرفونه.

.[مسألة:وجوب الجمعة]

والأصل في وجوب الجمعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
وفيها ثلاثة أدلة:
أحدها: أنه أمر بالسعي إليها، والأمر يقتضي الوجوب.
والثاني: أنه نهى عن البيع لأجلها، ولا يُنهى عن منافع إلا لواجب.
والثالث: أنه وبخ على تركها بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
ولا يوبخ إلا على ترك واجب.
وأما السنة: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة.. طبع الله على قلبه».
وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر... فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على امرأة، أو مسافر، أو عبد، أو مريض».
وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو على المنبر -: «يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة، وصلوا ما بينكم وبينه بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة، تؤجروا، وترزقوا، واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في عامكم هذا، في شهركم هذا، في ساعتكم هذه، فريضة مكتوبة، فمن تركها جاحدًا بها، واستخفافًا بحقها... فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا صيام له، ألا ولا حج له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا بر له».
وأما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على وجوبها.

.[مسألة:فرضية الجمعة على كل مسلم]

الجمعة: فرض من فروض الأعيان، وغلط بعض أصحابنا على الشافعي: أنه قال: هي من فروض الكفاية؛ لأنه قال: (ومن وجبت عليه الجمعة... وجبت عليه صلاة العيدين). وهذا ليس بشيء، وإنما أراد الشافعي: أن المخاطب بالجمعة وجوبًا، مخاطب بالعيدين استحبابًا.
إذا ثبت هذا: فإن الجمعة لا تجب إلا على من وجدت فيه سبع شرائط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورة، والحرية، والصحة، والاستيطان.
ثلاثة من هذه الشروط شرط في الجمعة وفي غيرها من العبادات البدنية، مثل:
الصلوات، والصيام، والحج، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل.
وأربعة منهن شرط في الجمعة وحدها، وهي: الذكورية، والحرية، والصحة، والاستيطان.
وشرطان من هذه السبعة شرط في الوجوب والإجزاء، وهما: الإسلام، والعقل.
وخمسة شروط في الوجوب دون الإجزاء: فلا تجب الجمعة على كافر في قول من قال من أصحابنا: إن الكفار غير مخاطبين في الشرعيات.
ولا تجب على صبي، ولا مجنون؛ لما ذكرناه في سائر الصلوات، وقد مضى ذكر ذلك في الصلاة.
ولا تجب الجمعة على المرأة؛ لما ذكرناه من حديث جابر، وروى أبو عمرو الشيباني، قال: رأيت ابن مسعود يُخرج النساء من الجامع يوم الجمعة، يقول: (اخرجن إلى بيوتكن خير لكن).
قال في "الأم" [1/168] (وأحب للعجائز إذا أذن لهن أزواجهن حضورها، لأنها لا تُشتهى).
ولا تجب الجمعة على الخنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرًا، فتجب، ويحتمل أن يكون امرأة، فلا تجب، وإذا احتمل الأمرين... لا تجب عليه الجمعة بالشك.

.[فرع: وجوب الجمعة على المسافر]

ولا تجب الجمعة على المسافر، وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري، والنخعي: إذا سمع النداء... وجبت عليه.
دليلنا: حديث جابر، ولأنه مشغول بالسفر.
ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها، فإن حضرها... فهل يتعين عليه فعلها؟ فيه وجهان، حكاهما في "الفروع".
والمذهب: أنها لا تتعين عليه، فإن نوى المسافر الإقامة في بلد أربعة أيام... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مقيم غير مستوطن، وهل تنعقد به؟ فيه وجهان، ويأتي بيانهما.

.[فرع: لا تجب الجمعة على ذي رق]

ولا تجب الجمعة على العبد والمكاتب، وقال داود: (تجب عليهما)، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وقال الحسن، وقتادة: تجب على المكاتب، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة، دون من لم يؤد.
دليلنا: حديث جابر، ولأن العبد مشغول بخدمة سيده، وحكم المكاتب حكمه، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبيه درهم».
فإن كان نصفه حرًا، ونصفه عبدًا، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، أو كان بينهما مهاياة، ولكن كان يوم الجمعة في حق السيد... لم يجب عليه؛ لما ذكرناه فيمن جميعه عبد، ويستحب له أن يحضر إذا أذن له سيده؛ لتحصيل الفضيلة، ولكن لا تجب عليه؛ لأن الحقوق الشرعية تتعلق بخطاب الشرع، لا بإذن سيده.
وإن كان يوم الجمعة في حق العبد... ففيه قولان، حكاهما في "الإبانة" [ق\95]:
أحدهما: تجب عليه الجمعة؛ لأنه في حكم الحر في هذا اليوم، بدليل أن جميع كسبه له.
والثاني: لا تجب عليه؛ لأن فيه بعض الرق.
وقال أصحابنا العراقيون: لا تجب عليه من غير تفصيل.